مقالات واراء

دكتورتامرأبوعميرة.يكتب..بطاقة أحمد العطار

بطاقة أحمد العطار

لقبه الحقيقي لم يكن العطار ولكن لقب العطار إلتصق به بسبب عمله ثلاث سنوات في محل عطار أثناء الدراسة.
أحمد عمل معي في دار النشر لشهر واحد ولكنه سبق وعمل معي في محل الملابس الذي كنت أفتحه لمدة منذ عامين.
وحتى عندما كنت أحتاج اليه في عمل بعد تركه المحل كنت أتصل به فيأتيني مرحباً.
منذ عرفت أحمد وانا أراه إنسان محترم وأمين وأثق فيه أن أترك له الأشياء ذات القيمة ومفتاح المكتب كان معه رغم عدم وجود نسخة معي.
أحمد جامعي ووالده يعمل حارس عقار بمدينة نصر بالقاهرة, وربما كانت تلك مشكلة أحمد, وربما أيضاً لم يكن هذا يفرق معه.

 

 

 

فعندما عرفته لأول مرة لم يخجل أبداً أن يقول لي أن والده حارس عقار, وكان يحكي لي أنه يقوم بمسح سلم العمارة وغسل سيارات السكان نيباة عن والده, ولم أشعر وهو يحكي ذلك أنه مثلاً يفتخر أنه يساعد والده, بل على العكس فكنت أشعر أنه يحكي ذلك بكل تلقائية معتبراً إياه أمراً عادياً, فكنت أرى أن هذا أمر لا يفرق معه وقتها.
أحمد بعد عمله بالعطارة ثلاث سنوات وهو في سن صغير عمل بمحل شهير للنجف بالقاهرة, فأتقن عمله وأصبحت لديه خبرة كبيرة في تركيب النجف, ورغم ذلك بعد سنوات طويلة في هذا المجال تركه لسبب ما وجاء ليعمل معي في محل الملابس منذ عامين وظل يعمل معي حتى أغلقت المحل, وبحث هو عن عمل أخر وانا أتابعه وأعرف أخباره وأراه من فترة لأخرى حتى وجد عمل بإحدى المستشفيات كموظف إستقبال.
عندما عرفت أحمد لأول مرة كان على وشك الخطبة الرسمية بفتاة من قريته تقيم بالقاهرة وأهلها يحوزون جراج سيارات, وما أدراك ما جراج سيارات بالقارة المكتظة بالسيارات, ففي عرفهم فإن أهلها يعتبرون من علية القوم.
كان أحمد يحكي لي عن حبه لها ولكنه في أحد الأيام كان حزيناً فسألته عن سبب حزنه وعرفت منه أنها مشاكل الزواج, فأهل الفتاة يطلبون الغالي والنفيس لتزويج ابنتهم وهو كما نعلم لا يملك إلا وظيفته المؤقتة وقتها معي في محل الملابس.

 

 

 

وكانت نهاية العلاقة بين أحمد وخطيبته غير الرسمية أنها سمعت لأهلها الذين كانوا يرون أحمد دون المستوى بالنسبة لهم لأن والده ليس لديه جراج سيارات فتركته.
عاش أحمد فترة من الحزن الكبير ولكنه كان يغمس نفسه في العمل الجديد بالمستشفى وحتى يستطيع أن يساعد والده لتوفير متطلبات الحياة الصعبة.
ورغم أن أحمد أصبح موظف إستقبال بمستشفى من مستشفيات القاهرة إلا أنه لم ينقطع أبداً عن مساعدة والده في العمل من غسل السيارات ومسح سلالم العمارة التي يعمل بها.
وفي إحدى المرات زارني أحمد وقص لي كيف أن طفل صغير يسكن في العمارة التي يعمل بها والده كان السبب في تركهم العمارة وأنهم سيتركونها في غضون أيام ويبحثون عن عمارة أخرى أو عن شقة يسكنون فيها.
وأجابني أحمد عن سؤال عن إمكانية إستمرارهم في العمارة التي يعمل بها الوالد منذ سنوات قال أحمد أنه من غير المعقول أن يأتي صبي صغير وينادي والده الشيخ الكبير بإسمه مجرداً, ويطلب منه طلبات مرهقة (يا محمد إطلع هاتلي الشوذ) (يا محمد خد ده طلعه البيت) .
وفاجأني أحمد أن والده مريض وأنه يحاول مع أطباء المستشفى التي يعمل بها أن يستخرج له قرار علاج على نفقة الدولة.

 

 

 

وبعد محاولات من البحث عن عمل أو عن شقة رخيصة الثمن وصل أحمد لصديق له يمكنه أن يؤجر لهم شقة صغيرة بالطابق الخامس دون مصعد وفي مكان لا تصله المواصلات بألفين من الجنيهات شهرياً.
وبعد محاولات مضنية وافق صديق أحمد على أن ينزل بالإيجار الى ألف وخمسمائة جنيه شهرياً نظراً لحالتهم وحالة والد أحمد.
وفعلاً إنتقلت الأسرة الى الشقة الجديدة وبعدها جاء أحمد ليعمل معي بدار النشر صباحاً حيث أن عمله في المستشفى هو عملاً مسائياً.
وكان أحمد مجتهداً كعادته نشيطاً كما عهدته, فذات مرة طلب مني أحد الكتاب زيارة الدار في الصباح الباكر لأنه من محافظة بعيدة جداً عن القاهرة وسيسافر بعد اللقاء مباشرة, فلم يمانع أحمد من المجيئ للدار من السابعة والنصف صباحاً لتحضير المكتب لإستقبال الكاتب رغم عودته المتأخرة من عمله الليلي بالمستشفى.
وكان أحمد يقوم عني بالمشاوير البعيدة مثل الذهاب الى هيئة الكتاب للتقديم على أرقام إيداع الكتب الخاصة بالدار أو إستلامها أو تسليم نسخ الكتب.

 

 

وفي إحدى الليالي زارني أحمد وهو مهموم جداً وكما تعود معي أن يقص ويحكي لي ما يهمه فقد قص لي أنه تعرف على فتاة وبدأ يحبها وبدأ التقارب بينهما وأنهما قد تصارحا بالإعجاب المتبادل, ولكنها لا تعرف وظيفة والده, ولأول مرة أشعر أن هذا الأمر يفرق مع أحمد, فكانت نصيحتي له هي المصارحة الكاملة الفورية, فقبل أن تزيد العلاقة ويصبح التخلص منها أكثر إيلاماً فعليه أن يكون واضحاً وصريحاً مع تلك الفتاة التي يريدها أن تكون شريكة لحياته منذ البداية.
فتلك الأمور أصلاً لا يمكن إخفائها, ثم أنه في الأصل فهو لم يكن يشعر يوماً بأي مشكلة في عمل والده, ولكنه تلك المرة يخشى أن تتركه الفتاة, فأغلب عائلتها من الأطباء ويسكنون أرقى أحياء القاهرة.
وإتخذ أحمد قراره بالمصارحة وبالفعل صارحها وعاد لي يومها حزينا جدا باكياً من القهر بعد أن قالت له بوضوح أنها لن يمكنها الإرتباط به لأن عائلتها كلها من الطبقة الراقية بالمجتمع وأنهم ذوي وظائف مرموقة.
واسيته بأنها لم تكن نصيبه, ولكن أحمد كان يشعر أنه لا ذنب له في نشأته وظيفة والده وهي لا فضل لها في وظائف أهلها وأقاربها الذين تتباهى بهم.

 

 

 

وكان كلام أحمد صحيحاً فمن منا إختار أين يولد ووسط من سينشأ؟
المهم هو الإجتهاد الشخصي وليس الإفتخار بالغير, وأحمد شخص جامعي مجتهد جداً يخدم نفسه وأهله وغيره دون كلل أو ملل.
وبعد فترة قصيرة شعرت أن أحمد قد تعدى الأزمة وإنغمس في العمل, أقصد في الأعمال, فأحمد نهاراً يعمل معي في المكتب وينجذ المشاوير الخاصة بهيئة الكتاب, ومساءاً يعمل بالمستشفى, وبين هذا وذاك يبحث لوالده عن العلاج على نفقة الدولة.
كان أحمد يحدثني دائماً عن عمله الأخر بالمستشفى وكان يحدثني عن بعض الظلم الذي يواجهه في توزيع المهام بالعمل, وكان يحكي لي عن دكتور شريف الذي لم أقابله من قبل ولكن أحمد كان يحبه كثيراً لدرجة أنه إشترى نسخة من روايتي ليهديها إليه لأنه يعلم أنه يحب القراءة.
وفي إحدى الليالي جائني إتصال متأخر من أحمد وصوته يرتجف وقال أنه فوجئ بأنه نسي بطاقته الشخصية في الهيئة العامة للكتاب عندما كان يتسلم أرقام إيداع بعض الكتب.
وسألني أحمد هل يعملون بالهيئة يوم السبت؟
لأنه يريد البطاقة بشكل عاجل وضروري لإنهاء أمور تتعلق بعلاج والده, فأخبرته أنه للأسف الهيئة لا تعمل يوم السبت وأنه يمكنه أن يذهب يوم الأحد ولكن لو إستطاع أن يذهب يوم الإثنين فهذا أفضل ليتسلم الإيصالات الجديدة التي كان قد قدم عليها.

 

 

فالأن أصبحت أرقام الإيداع تتأخر بالأيام ولم تعد تسلم لدار النشر في نفس وقت تقديمها كالسابق.
المهم أنني قلت له لو تريد الذهاب الأحد فإذهب ولكن لو تستطيع الإنتظار للإثنين فهذا أفضل وطمأنته لأنه كان قلقاً من فقدان البطاقة فقلت له أنه لو نساها لديهم بالفعل فسيجدها إن شاء الله.
ولكن …
يوم الإثنين كان بعيداً …
كان أبعد مما تصورنا جميعاً …
فيوم الإثنين لم يأتي أبداً.
فيوم الأحد أنهى أحمد عمله في المستشفى الساعة الثانية عشر مساءاً ثم عاد لمنزله ماشياً رغم بعد المسافة.

 

 

أحمد في الساعة الثانية بعد منتصف الليل صدمته سيارة مسرعة بشدة في أحد شوارع مدينة نصر.
فإكتشفت أن أحمد كان يحاول توفير أي شيء من دخله ويضغط على نفسه ويسير مسافات كبيرة ماشياً ليوفر لأهله ولوالده المريض ثمن المواصلات, فبالرغم من أن أحمد لديه عمل في العاشرة صباحاً وأنه كان يقضي يومه مرهقاً بين أكثر من عمل إلا أنه كان يحاول توفير كل قرش ليرعى أهله ووالده المريض فيؤثر على نفسه ويضغط عليها ليمشي يومياً مسافة كبيرة جداً ليوفر ثمن المواصلات لأهله.
ظل أحمد بالمستشفى بالعناية المركزة بعد إجراء عملية دقيقة جداً له ولكنه ظل في غيبوبة, وعندما زرته عصر يوم الإثنين … ذلك الإثنين الذي لم يأتي أبداً …

 

 

 

وجدته ليس موجوداً فقد كان أحمد في غيبوبة طويلة بعد عملية جراحية بالمخ إستمرت لعدة ساعات.
كان أهله لا يعرفون عن حالته إلا القليل فتوسموا في أن أفهم لهم من الأطباء ما يحدث.
وللأسف فمستشفياتنا الحكومية المعاملة بها أسوأ مما كنت أتصور, فالطبيب لا يلتقي بأهل المريض إلا بعد أن ينهر موظفو أمن المستشفى الحضور ويطلبوا منهم المغادرة ليبقى واحد فقط من أسرة كل مريض فيخرج الطبيب ليتحدث في عجالة عن كل حالة لثوان معدودة, والطبيب لا يريد زحاماً يزعجه فهو لن يتحدث إلا أمام عدد قليل من المرافقين لجميع المرضى.
ترددت على أحمد بالمستشفى أكثر من مرة وفي كل مرة أجد حالته كما هي بدون أي تحسن فهو لا يشعر بما حوله, وفي أخر زيارة همست في أذنه قائلاً (هيا يا أحمد فنحن نحتاجك ولا نستطيع أن نفعل شيء بدونك) والحقية انا لم أكن واثقاً وقتها هل أحمد موجود بالفعل ويسمعني أم أن هذا الجسد أصبح خاويا إلا من بضع أنفاس تتردد.

 

 

 

ولكن أحمد بالفعل لم يكن موجوداً …
فحتى تلك الأنفاس المترددة قد خفتت ..
مات أحمد الطيب الذي كان محباً للجميع …
مات أحمد الشاب المصري المطحون الذي يعمل ويكد ليل نهار لتستطيع أسرته أن تعيش .. فقط لتستطيع العيش وليس أكثر من العيش…
مات أحمد المحب الذي كان يتمنى أن يجد الحب وأن يكون أسرة مصرية جديدة ربما تعاني أكثر مما عانته أسرته التي نشأ فيها …
مات أحمد ولكنه ترك في داخلي وفي داخل كل من تعامل معه ذكرى جميلة لشخص محب وطيب وخدوم ونشيط كان يملأ الدنيا نشاط ولكن ضاقت عليه الدنيا فخرج منها غير آسفاً عليها …
مات أحمد وبطاقته لا تزال في جيبي لم أعيدها إليه بعد.
رحم الله أحمد العطار وأرجوا من الله أن تكون حياته السعيدة قد بدأت منذ خروج نفسه من ذلك الجسد الذي عاش في هذه الدنيا يبحث عن السعادة.
#تامرأبوعميرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى